ألتأمل


 

ما أكثر مدرسات "التأمل"،
و لكنها تجهل هذه الحقيقة:
أن كرشنا لم يُعلم التأمل لأرجونا إلا بعد أن دله على الحقائق الوجودية و حرره من الأوهام،
و أن البوذا لم يعلم تلاميذه التأمل إلا بعد أن علمهم رفضَ الخرافات و البحثَ عن الأسباب الطبيعية و الكونية لأحداث حياتهم،
و تجدون اليوم معلمي التأمل، في الشرق الأقصى و الأوسط و في الغرب ... يعلمون التأمل كتقنية (technique)، و يتنافسون، و الواحد منهم يقول: تقنية هذا الغورو أحسن، أو يقولون التقنية الهندية أفضل من الصينية، أو: هذا الغورو يعرف ا
لمانترا (mantra) الخاصة بك و بدونها لا تستطيع أن تتجاوز ...
و المُتأمل الماهر يستطيع عزل وعيه عن حواسه ليتجه به إلى ... إلى أين؟؟
هذا هو السؤال الفلسفي الذي على طالب التأمل الإجابة عليه قبل أن يتأمل،
لأن التأمل كتقنية عصبية ذهنية ليس إلا رياضة عصبية ذهنية،
و الحقيقة التي لا يريد أن يسمعها المتحمسون للتأمل: أن الذي يجيب نفسه على تساؤلاتها الفلسفية إجابة صحيحة: لا يحتاج أن يمارس أية تقنية للتأمل، لأن الحقيقة قاب قوسين أو أدنى، فاتحاً عينيه الشحميتين أم مغلقاً إياهما ... 
(يتبع)

 

ألتأمل (2)

إن للنظر الداخلي عدد لا يُحصى من النوافذ، و بعضها يحصل النظر فيه باتجاهين: يعني يمكن للناظر أن يتلقى منها المشاهدة، كما يمكنه أن يطرحها عليها،
في هذه الحال سأقول أنه يتوهم، 
و هذا غير المشاهدة، التي هي من مخزونات ذاكرته الوجودية، و من الحقائق الوجودية، و في ارتفاعاتها العليا: من العقل الكلي، و في ذراها من ذاته،
و حتى هذه: عليها أن تتصور له في إطار تجربة حياته،
و هذا لا يجب أن يؤخذ كتعليمات في التسامي، لأن تجربة كل إنسان شخصية، 
و قد نوهتُ في رسلة ماضية أن تحديق العينين في رأس الأنف أو بين الحاجبين ... يوجه البصر إلى مواقع مختلفة في الرأس، حيث توجد هذه النوافذ المختلفة،
هكذا فالدور الذي يلعبه الوعي في التحقق مما يشاهد: متوقف على إدراكه العملي الذهني العقلي الفلسفي لحقائق وجودية،
و أكثر المتأملين يشاهدون و يشعرون ما تعلموا أن يشاهدوا و يشعروا، و العقل البشري قادر على تصوير أي شيء لديه،
و كم من ناظر داخل رأسه كالناظر لجدران غرفته: الصور التي علّقها هناك يراها هناك

 

ألتأمل (3)

هناك أيضاً في الرأس نوافذ إلى النفس في مكانها و زمانها، و بالتأمل يمكننا أن نزورها في سبيل ... الإنفصال عنها ... في سبيل النظر إليها و التأمل بها،
و لا أبالغ إذا قلت أن كل مدرسات التأمل تعلّم الوصول إلى هذه الغرفة، و تسكن فيها و هي لا علم لها بالغرف الأخرى و نوافذها، فتختلط الأشياء في أذهان المتأملين، و يحسبون أنهم بلغوا التجاوز و "تنوّروا"، و هذا هو الخطأ الكبير الذي ترتكبه كل هذه المدرسات الهندية و البوذية و الغربية، المجانية منها و التجارية، 
فإن المتأمل الماهر قادر على عزل وعيه عن حواسه، فيجد نفسه منفرداً مع نفسه، مواجهاً أهواءه و مخاوفه، و أمانيه و عقبات حياته ... و جسمه و ذهنه ...
و اسمعوا جيداً: و معتقده،
فإذا كان قد درّب ذهنه و عواطفه على الخضوع لعقله: يمكنه أن ينعزل عن نفسه، ليتأمل بها و يصنع منها ما يشاء، فيرى أن المعتقد والأماني و المخاوف و المصاعب ... أثاث منزله الذي اشتراه و وضعه حيثما يريد في غرف منزله و استعمله كلما دعته الحاجة له،
هنا يمكنه الخلاص من الأثاث المُخلوَع غير الصالح للإستعمال، و استبداله بأثاث جديد،
هنا يمكنه غرس عادات جديدة في نفسه و التخلص من عادات قديمة ...
و كل ما تُعلّمه مدرسات التأمل هو بلوغ هذه الغرفة: التي هي غرفة الأنا المكانية الزمانية، ليضع فيها قطعاً من أثاثها مكان الأثاث القديم في أمكنة تُعيّنها له،
فإذا استيقن هكذا أنه السيد وليس عبداً لهذه الممتلكات: سوف يصبح بالتمرين قادراً على مقابلة نفسه حراً منها، فيحملها كالطفل في حضنه، فهو لا ينقاد بها كما أنه لا يكرهها و لا يريد تعذيبها،
و هذه أولى طلّاته على وجوده

 

ألتأمل (4)

ليس التأمل شرطاً للخلاص، و الذين ينادونكم: تأمّلوا تأمّلوا، هم كالذين يقولون: صلّوا صلّوا،
و كرشنا و البوذا علّما التأمل في سبيل معرفة النفس و توسيع مداركها، و في سبيل الخلاص، و لكن ليس حصراً،
و في الغيتا وصف مختصر للسبل العديدة المتوفرة لأبناء السبيل، يعني لطالبي العلم،
و واحد منها: الإنهماك بالعمل،
في عصرنا هذا الإنهماك بالعمل خير طريق لتهذيب الفكر و الأخلاق، و وضع المعتقدات و النظريات على المحك العملي،
ليس من المراجل بشيء في هذا الزمان أن يعتزل الواحد منكم في صومعة، حيث هدوء عزلته و خلو فكره من هموم الدنيا: يقدمان له ساعات طويلة ... للتأمل،
هل هذا طريق معرفة اليوم؟
أشك بذلك،
في العصور الماضية كان هيناً على الواحد منكم أن ينعزل عن الناس، ليرفع سدوداً عالية بينه و بينهم، فلا يلوث فكره بفكرهم، و لا يعمل أعمالهم، و لا يهوى أهواءهم، و لا يحمل أعباءهم، و كان هذا حسناً،
أما اليوم فهذا غير ممكن، فمثلاً عندما يمرض تراه مُسرعاً إلى طبيب لا يعتقد معتقده و لا يعيش عيشه، و هذا من النفاق،
لأنه إذا كان صادقاً في عزلته فلا يريد علم هذا الطبيب و لا عونه، و يقبل ما كُتب له ضمن الحدود التي يقول أنه وضعها لنفسه حسب معتقده،
لذلك فالإعتقاد أن على طالب التنور أن ينعزل بأية صيغة كان هذا الإنعزال: إعتقاد لا يمكن تطبيقه اليومَ عملياً،
و ليس عالَم اليوم المُتعب المُنهك للنفس و البدن، الضاج بضجيج الآلات و المتاهات الحسية و الفكرية و الخلقية: إلا خير بيئة لوضع جميع المعتقدات على محك عملي واحد: فهل المعتقدون هذه المعتقدات قادرون على خوض هذه المعمعة من غير أن ينسوا عقولهم؟
لذلك فأرى أن إذا أراد الواحد منكم أن يسلك سبيل التأمل فليفعل من غير اكتراث بتعليمات الغورو (ما جمع غورو؟ غوروون أو غورور؟ إستفهام مضحك)، فهؤلاء ينسخون بلغتهم ما قيل من آلاف السنين، أين كانوا آنذاك؟ إسألوهم إن كانوا صادقين،
و لا يزال بعض يدعونكم للتسليم و يسمونه إيماناً، فقبل أن ينصب هؤلاء أنفسهم مناصب روحية عليّة ليتهم يتعلمون التفكير التحليلي المنطقي الذي علمه سقراط من أكثر من ألفي سنة، و الذي تعلّمه اليومَ المدرسة الإبتدائية للأطفال، فسيجدون أن تسليمهم ممارسة وثنية، و تكبرهم على العلوم الدنيوية ستار لعجزهم و كسلهم،
في المرة القادمة سأقدم بعض التمرينات

 

ألتأمل (5)

تمرين الإنعزال:
إذا كنتم قادرين على عزل وعيكم عن العالم الخارجي و عن عواطفكم و أفكاركم و همومكم ... فهنيئاً لكم، أما إذا كنتم تواجهون بعض الصعوبات فلكم هذا التمرين،
و لكن قبل البدء به خاطبوا أنفسكم قائلين لها أن هذا شيء ممكن،
لا تحتاجون لبخور و زهور و عطور، و لا لمانترا لترددوها، و لا لصور على الحيطان، و لا لبساط عليه رسومات معينة لتجلسوا عليه ... فإذا كنتم تحبون هذه الأشياء فستبقون عليها،
بل أقترح عليكم أن تمارسوا هذا التمرين في وسط الضجيج و غياب الإستقرار، على الباص أو القطار و أنتم مسافرين، أو في العمل على فرصة الغذاء، أو في المنزل ... أينما كنتم،
إجلسوا أو استلقوا لتكونوا مرتاحين، أغلقوا أعينكم، هدّؤوا تنفّسَكم و نبض قلوبكم، و كأنكم تذهبون للنوم و لكنكم تريدون أن تبقوا متنبهين،
إذا كان حولكم أضواء فسوف ترون ... أشياء مثل الغيم، بنّية اللون تأتي و تتحرك بسرعة، و إذا حولكم ظلام فهذه الغيوم ستكون قاتمة اللون،
لكن الضجيج سوف يلح عليكم أن تعطوه انتباهكم، لا تردّوا عليه،
ثم تبدأ أفكاركم و عواطفكم و همومكم و مخاوفكم ... بالهجوم، راقبوها من غير اكتراث بها،
ثم ستسمعون أصوات الناس الذين تحبونهم و المزعجين منهم الذين لا تحبونهم ... جميعهم يلحون عليكم بالإنتباه لهم،

ألآن إبنوا بخيالكم كرة زجاجية سميكة عازلة للصوت، 
تخيلوها في البدء قريبة منكم، و أنتم في داخلها وحدكم،
كل تلك الأشياء التي تضج حولكم صارت تلقائياً خارجها، منفصلة إنفصالاً تاماً عنكم،
سوف ترون وجوهاً و أشياء و أناساً كثيرين ... يدقون بقوة على الكرة من الخارج، لكن دقهم و صياحهم لا يصلكم،
راقبوا كيف بالتدريج سوف تتسع الكرة لتبعدهم، فقد قويت أنفسكم عليها، و لا يمكنها أن تصلكم الآن،
و أنتم تنظرون بهدوء مبتسمين في هذه العزلة، فأنتم لا تكرهون هذه الأشياء لكنكم تبعدونها الآن عنكم،
في هذه الأثناء الضجيج الطبيعي الذي حولكم، من القطار أو الباص أو أياً كان: لم يعد مزعجاً و لا يأخذ قسطاً من انتباهكم،
بل هو الآن جزء من الأشياء الموجودة خلف الزجاج، رغم أنكم تسمعونه ... و لكن قليلاً،
إذا ثابرتم ... سوف تختفي هذه الكره الخيالية، آخذةً معها كل هذه الأشياء التي عزلتها معها، و عسى أشياء أخرى الآن تيقنتم من غيابها،
أنتم الآن منفردين مع نفوسكم، لا تسمعون إلا تنفّسكم و شاعرين بضربات قلوبكم قد تباطأت،
ما أجمل هدوء نفسكم و ما أسعده ... و هذا لقاء بعد فراق طويل،
أين تلك الغيوم الآن؟ ماذا ترون؟ سأترك الإجابة لكم،
ثم بعد أن تنتهوا ... تذكروا تلك اللحظات و تفكروا بها، فستجدون مشاعر كانت غائبة عن منالكم، و الآن تريدون منها المزيد ...

 

ألتأمل (6)

إذا مارستم هذا التمرين مراراً فسوف يأتي يوم تستطيعون دخول غرفة نفوسكم دفعة واحدة، من غير جهد كبير،
نفسكم هي زوجكم التي خُلقتم منها لتأنسوا لها، كما جاء في الكتاب،
ليس في هذه الغرفة إلاه يرضى و يزعل فيكافئ و يقاصص،
و لا شيطان يريد أن يخوفكم و يضلكم،
كل هذه المعتقدات و المشاعر منكم و لكم، و لا أحد غيركم يخلصكم منها،

في غرفة النفس يمكنكم أن تعلّموا أنفسكم ما تشاؤون، لحظات من المخاطبة و الإرشاد هنا تعادل سنيناً من المخاطبة و الإرشاد في حال السكْر، أعني به الحال العادية،
و لكن عندما تثابرون فإنكم ستصبحون في الغرفة ... دائماً و يذهب السكر كلياً،
لذلك فالتعليم النافع هو ذلك القائم على الحقائق، لتتطهر منازلكم من الأوهام و الخرافات و المعتقدات و الخوف و الحاجة، و تعرفوا أنفسكم،
لذلك فالدراسة و التفكر ... خير وسيلة للغربلة الفكرية المنطقية العقلية الأخلاقية،

أما ما يفعله الغوروون، فإنهم يبهرونكم بأقوال حكيمة قيلت من زمان، و بأزيائهم و عاداتهم و سلوكهم، و بعض: بسحرهم، فتُسلّمون لهم و تستمعون لهم، فتحملون أشياءهم إلى غرف نفوسكم كما علموكم، فتصبح جزءً كبيراً من وعيكم و تحسبون أنكم تنورتم،
أقول، لا تجعلوا من نفوسكم مرمىً لنفايات نفوسهم، يكفيكم ما لديكم من نفايات هنالك، تراكمت من مجتمعاتكم و من ممارساتكم الذهنية والخلقية الخاطئة،

في الغرفة، خاطبوا نفوسكم بالإسم الذي تُعرفون به، فالمُخاطِب هو نفوسكم الأزلية، التي هي أشعة من النفس الكلية، و المُخاطَب هو الأنا المكانية الزمانية،
و إذا ثابرتم فستأتي ساعة تتقابلان و تُعجبان بالجمال في مرآة لا تعكس التبرج

 

ألتأمل (7)

ألفرق الكبير بين ما أقدمه لكم و بين ما تعلّمه مدرسات التأمل هو أني لا أقترح عليكم أن تُسلّموا بأي شيء، فهكذا لا أجعل التسليم شرطاً للتأمل، كما أني لا أقترح عليكم مشاهدة قد عينتُها لكم مسبقاً،
لأن مشاهدة أي شيء و اختباره مرهونان بمقتنيات نفوسكم،

فهناك يمكنكم إستبدالها بمقتنيات أنتم تختارونها لمنفعتها العملية، أو الخلاصُ منها كلياً من أجل حياة غير متعلقة على المقتنيات أياً كانت،
فهذه حرية نفسية، تمهد الطريق للنفوذ إلى منافذ عديدة في رؤوسكم،
كيف تعرفون أن هذه المنافذ موجودة؟ بلقائها فقط،
أما إذا توقعتموها حسب وصف وصفه غورو أو رجل دين: فإنكم سوف تشهدون ما وُصف، و هذا سوف يشك الذهن به شكاً كبيراً إذا كنتم قد دربتموه على التحليل المنطقي و وضعتموه في المنصب اللائق به في نفوسكم،
أما إذا كنتم من الذين يبنون نفوسهم و عقولهم على التسليم، و يُخرسون فكرهم و ينعتونه نعوتاً ظالمة: فهؤلاء ساكنون في الأوهام، يستبدل الواحد منهم أوهامه التي ورثها بأوهام قد تعلمها فيحسب أنه حقق تقدماً روحياً كبيراَ،

إن للأدلة حسب ما أراها ثلاث درجات:
ألدليل المحوس هو الدليل الأسهل للرفض أو القبول، لأن نقله من شخص لآخر ممكن بالحواس،
و الدليل المنطقي: لا يبرهن بالمحسوسات، لكن التعبير عنه ممكن بالكلمة، يبقى قبوله أو رفضه مرهوناً بالمعرفة بالمسارب المنطقية المجردة و الموجودة كونياً،
هذه، الذي تأمل في محتويات فكره و في الصور الطبيعية: يجد تطابقا بين هاتين، فهكذا يقبل بها الفكر و الذهن كحقائق كونية،
أما الدليل العقلي فهذا باطني، يُلمّح إلية تلميحاً و لكن يستحيل وصفه و الدلالة عليه للتحديد،
أما المشاهدة الحقيقية فهذه لا يشار ليها بشيء، و هي ليست شيئاً،

هكذا إذا لم يهيء ممارس التأمل نفسه لمواجهة هذه الإستفهامات فإنه سيقع أسيراً في السجون التي وقع فيها مُعلّمُه،
فلا التأمل و لا الصلاة شيء تستطيعون عمله و أنتم سكارى،

فبعد كل جلسة تأمل خذوا وقتاً لتتأملوا فكرياً و شعورياً بما خبرتم،
و لا تُرغموا أذهانكم التي لا ترضى إلا بالدلائل المحسوسة: على الصمت، بل اعطوها حقها من الإحترام،
و إن خير طريقة لإسكاتها هي بإخضاعها للفكر،
فهذا أعلى منها لأنه قادر على التجريد، و الذهن الطبيعي يخضع لمعارف الفكر المجردة، فيسكت أمامها لأنه خاضع لها على كل حال،
ثم يأتي الفكر للشك بما تختبرون، و هذا أيضاً يُعطى حقه من الإحترام، و إذا كنتم قد دربتموه بالعقل: فهو على يقين من سيادة العقل عليه،
و هذا هو الإيمان الحقيقي، الذي يطهر النفس من كل الأوهام و يهيؤها للطير

 

ألتأمل (8)

يا رجال الأديان و الطوائف، القديمة و الحديثة و من تبعهم فرادى و جمعاً، إني بريء منكم، و الكتب و الحكمة التي أُعطيتم ليست ملكاً لكم، صنعتم منها أدياناً و مؤسسات لكم و هي للبشر جميعاً، تبّت أياديكم،
هذي الدروس في التأمل تساعد ذوي حِجر على التحرر من طغيانكم، و أنتم تغتاظون لأنكم لا تفهمون قولاً،
قد غابت الكتب و الحكمة في تعابيركم و قواميسكم، و أنتم غافلون عن كل معنىً،
إذهبوا و لملموا ما تبقّى لكم من أمجاد متداعيةٍ، تأملون أن يأذن ربكم أن تبقوا في القبور دوراً، لتكذبوا على قبائلكم كذباً جديداً، تقولون أنظروا قد أنعم إلاهنا علينا كما وعدنا، و الأرض باتت قاعاً صفصفاً،
لا تمنوا على ربكم و على الناس ألقاباً لقبتموها أنفسكم، كان كفلها الحق لو استحققتموها عصداً

 

ألتأمل (9)

تمرين النظر:
بعد ممارستكم تمرين الإنعزال، أصبحتم الآن متوكلين عليه،
و لأنكم تريدون المزيد فإنكم الآن تريدون الإنفراد، و أطراف الليل خير وقت، و الكون كله ينادي من الصمت المليء بأناشيده،
و هذا ثمرة الإعتراف بالموجود، الذي دربتم أذهانكم و أفكاركم ... و بصائركم عليه،
فكيف يمكن الآن خلط الأوهام بالمعارف؟
ألمعارف تأتي من غير ترقبكم، لتكون برهاناً لا يقبل الجدل،
و أما الأشياء المُتوقعة الموصوفة، فهذه لا يرضى بها العقل،
فهو يريد أن يعرض محتوياته، أما مسلماتكم و اقتناعاتكم ... فقد أهملتموها هنا كُلياً،
و قد علّمتم أنفسكم الآن أين تنظر إلى الخيال و أين تنظر ... لترى ما يُعرض على شبكية العين،
فهذه إذا شك بها الذهن و الفكر فقولوا لهما أن يشُكا إذاً بكل النظر في حال السكر،
آنئذ يتكون في أذهانكم الإقتناع غير المتوافَق عليه عالمياً: أن النظر بكليته في داخل الرأس،
و هذا انتصار لو تعلمون عظيم،
كيف سيوافق العلم التجريبي بين يقين إفرادي و يقين فردي؟ بل و كيف ستمهد الفلسفة لهكذا توافق؟
لكن العقبات الواقعية ليست أمراً وجودياً، هذا هو اليقين الذي يمحو كل شيء فلا يبقى إلا الوجود،
"يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء"،
هذا هو كون النفس المضاء بالوجود، الطَّرِب المستمتع بمشاهده الجلية الواضحة، المستمع لمانتراته و لآياته سمعاً أوّلاً

 

ألتأمل (10)

ألذي ينتصر و ينظر داخل رأسه يرى حقائق الكون بكليته جلية واضحة وضوح الشمس و القمر، على شبكية عينه،
فهنا السماء والطارق،
طارق سبيل العرفان، يتبع شهابه الثاقب، فربه قادر على إرجاعه، هذا انتصار الحق على ظلامه،
و أما الذين يتجادلون و يدعون احتكار التوحيد بكتبهم و أعراقهم، فهؤلاء أسرى المعتقدات الإلاهية (monotheist)، الساكنة في ثالوث: ألله و العالم و الإنسان،
هؤلاء، كل فريق عرّفوا إلاههم و سموه أسماءهم و وصفوه في كتبهم،
ينظر الواحد منهم إلى ما طبعه على نفسه، فيزداد تعلقاً به، و يزداد رسوباً.

لكن النفس التي وحّدت لا ترضى بالقليل، لأن نفسها تحدسها أن عين اليقين و مشاهد الوجود ليست إلا لآلئ السبحان، فتثابر على طلب السمو لتزداد تواضعاً ...

 

ألتأمل (11)

تمرين السباحة:
هذا التمرين يأتي ... من غير تمرين، و لكن بعض المحاولة تنفع، لأنها تقوي عضلات العين، و يصبح التحكم بمحور العينين هيناً،
في خلوتكم اليومية مرّنوا عيونكم على التحديق برأس الأنف، كما وصفت الغيتا، ثم أغلقوا العينين كلياً، مُثبّتين العينين في فضاء بصركم،
إذا كنتم مُتقدمين بالتمرينين اللذين وصفتُ لكم فإنكم سوف ترون كيف ينكمش فضاء البصر و ينقبض، و هو الآن خالىٍ من الضباب، إلا قليلاً على الحواشي لا تهتمون به،
و لقد تعودتم الآن أن تتلقوا أنباء نفوسكم، بالإشارات الضوئية بألوانها المختلفة، و بطنين الأذن و النفخ و البرّ، فهذه إشارات المسير،
و ذات صباح، الرغبة بالرجوع تتحقق في الغوص، و إرجاع اتجاه الرأس قبل الإنقلاب في أرحام أمهاتكم،
فهناك السبحان، و قشعريرة الإغتسال، و نفَس الحياة، و النظر الموجود في الموجود، و النور الذي لا يحتمل النور و اللون و الظلام، و الأفق الواسع المتسع، لم تختبره العينان الشحميتان، و لا علم لهما به، 
لكن الدماغ الذي تدرب على التجريد و التعالي على الأوصاف: أصبح مُهيئاً لينقلها إلى وعيكم، لقد علّق ربكم الأرض على المياه

 

ألتأمل (12)

أما المشهد فهذا يزور من استطاع إليه سبيلاً، فلا يوجد تمرين لبلوغه، لأنه ما لم تصفه عين رأت، لكن الذين عملوا بما جاء في الكتاب: لا تقولوا راعِنا و قولوا أنظرنا، و طهروا عقولهم من الأوهام و الظنون، و خلعوا أعباء الخوف و الحاجة عن نفوسهم، فلهؤلاء نظرة حية و وجه، في التأمل و بغير التأمل، ليس كمثله شيء، ومشاهد لا يصفها وصف، و كأنها تقول هذا مما لا يحتويه إبداع ذاته، و تعالى أن يحده كون، و إذا اصطفت الأفلاك بحسبانه يظهر في الكون للكون بغير كون، آنئذ هنيئاً للذين يعرفون ما يرون، فترقبوا قريباً، و يتدلّى لتألف عقولكم المشاهد، أنظروا على الأرض و في السماء وفي رؤوسكم، كلما تراجع المألوف، ليكشف ما لا يؤلَّف

 

ألتأمل (13)

إن الذين يعبدون إلاهاً غياباً و الذين يعبدون حجراً و الذين ينتظرون بشراً قد تساوَوا جميعاً بالضلال، و جعلوا من الوهم ديناً ليختلفوا و يتجادلوا فيما بينهم،
واجب على رجال أزيائهم أن يُقرّوا بأخطائهم، و هذا العالم المتخبط بجهله الغارق بعذابه ... يصلحه ربكم إذا اصطلحت النفوس و صفت النوايا،
و الذين يعترفون بالكتب جميعها و الحكمة هم المؤهّلون ليقولوا الحق، ليكونوا الحجة العقلية التي تتفتت أمامها الخرافات و شرائع الوثنية،
الكتب عينها و الحكمة ذخيرتهم، و إيمانهم بقانون هذا العالم قوة لهم، يواجهون بها أعظم العواصف فلا تهزهم،
هكذا تُغفر ذنوبهم و يُرضون الحق و به يرضون، و هذا قدرهم،
و هذا ليس ليدعوَ بعضٌ بعضاً أن يُدخلوهم في دينهم أو طائفتهم،
ليست هذي الأديان و الطوائف من شيء اليومَ و إن أكرم الناس أقواهم حجة و أشملهم رحمة

 


 

 


All rights reserved
Copyright The Circle of Beauty

  Site Map