أصوفية (1)

يرى بلعض المفكرين الإسلاميين أن إحياء الصوفية خير طريق لهزم الأصولية عقائديًا،
و عندما تُذكر هذه الأسماء يهبّ بعض للإعتراض على استعمالها استعمالًا مُنفلتًا من غير اعتبار لتعريفها الأكاديمي،
لكن الواقع أن الأكاديميا لا يتفقون لا على تعريفها و لا على تاريخ نشوئها و انتشارها ... و لا على الشخصيات الإسلامية المعروفة أن تمثلها ...
و لا على معتقداتها و طرقها و شعائرها ...

و ينظّر بعضٌ أن الصوفية و فروعها المتعددة كانت هي السائدة في العالم الإسلامي الممتد من الهند إلى شمال أفريقيا، مرورًا بإيران و تركيا ...
و أن الأصولية ابتدأت بالوهابية ... و أن هذه دعمها الإستعمار البريطاني، من أجل تثبيت أقدامه في الشرق، بأن يبقى الشرق متخلّفا فكريًا و سياسياً ليسهل إذلاله و حكمه ...

لكن الإخوان المسلمين حركةٌ هي أيضاً أصولية، إذا ما قيست بالصوفية، و هذه، لا أذكر أني قرأتُ نظريةً تُعزي إنشاءها للإستعمار، و لا بدّ أن هكذا نظرية موجودة لكني غفلت عنها ...

في كل الأحوال، العالم العربي و بصورة أوسع: الإسلامي: لديه فائض من نظريات المؤمرات ...: لا يرى مطلقوها و متبنّوها أنها لم تنفع و لن تنفع ...، و ما هي إلا عوامل عداوات و تفرقة جديدة، و كأن عداوة السنة و الشيعة المزمنة لم تكن كافية،
أو كأن إطلاق هذه النظريات يُحرر الشرق منها ...
خير ما يعمله مطلقوها أن يكفوا عن مد أيديهم للقوى المجاورة و البعيدة طالبين دعمها، و أن يمدوا يد الصداقة و الوفاق لمنافسيهم ...
غير هكذا لن تنتهي الدول المجاورة و البعيدة عن دعم مؤامراتهم: بعض على بعض ...

و مهما كانت نظريات المؤرخين المنتمين و غير المنتمين للصوفية أو الأصولية، الأمر الذي يغفل عنه الجميع هو تضاد أو تقابل سبل التوحيد و تعريف الفريقين له،
و قد قدمتْ هذه الصفحة عرضًا مختصرًا لهذه السبل، ملخصه أن هناك طريقين رئيسيين منذ بدء الرسالات الإبراهيمية ...
طريق الإعتراف بالخالق في إنسان ما،
و طريق الإعتراف به بكتابه، و بالأماكن التي يجدها المعترف حسب فهمه مقدسة و باباً إلى السماء

ألصوفية (2)

إن دراسة التاريخ الإسلامي أمرٌ لا يهمني و لا بأدنى درجات الإهتمام،
و إن الناظر اليوم إلى الدعاية الدينية السياسية، على الأوساط الإعلامية و الإجتماعية، و في المنشورات المُعتبَرةِ جديةً، غيرَ الملتزم باتجاه فكري ما و غير المتحيز له: لا اختيارَ له إلا أن يقف هذا الموقف،
ذلك لأن تضارب نظريات التاريخ الإسلامي القديم و الحديث: يدعو إلى إهمالها جميعًا، باعتبارها دعايةً، ليس إلا،

لذلك فالناظر في الصوفية منذ نشأتها: عليه أن يتناول أسسها الفلسفية المُشارُ إليها في أعمال روّادها، من شعر و نثر و سيرة، تاركًا نظريات تاريخها جانبًا،
هكذا، سواءٌ أنظّرنا أن الصوفية نشأت في أقاصي شرق العالم الإسلامي في الهند و أفغانستان، جرّاءَ احتكاك الإسلام بالبوذية و أديان الهند، أو قلنا أن جذورها مسيحية شرقية أوسطية:
يبقى التنظير هامشيًّا، ما دامت الدراسة الفلسفية للصوفية هي الغاية، و ليست مكانَ و زمانَ اندلاعها و تحركها عبر الزمان و الأوطان،

و هنا لا يفوتنا أن نذكر النظرية القائلة أن يسوع قام برحلة إلى الهند قبل بدء دعواه، حيث تعرّف على أديان الشرق الأقصى ...!
فهذا من قبيل التنظير الذي لا يساعد على الفهم الفلسفي للأمور ... ألا إذا كانت غايته التعرف على الخطوط المتوازية بين الفلسفات،
على هذه الخطوط ليس المهم من ابتدءها و متى و أين: بل وجودُها،
و سوف أتطرّء لهذا الموضوع في رسلة لاحقة

ألصوفية (3)

كان سهلًا على أبناء القبائل العربية في مستهل انتشار الإسلام أن يعترفوا بالكتاب الجديد، لما سمعوا آياته و اهتزت الأرض تحت أقدامهم، ألمؤمنون منهم، و أوّبت الجبال لهم و أكبرت السماء بعد فراق طويل، و قالوا الله أكبرَ، و أكبرَ فعلٌ ماضٍى مبنيٌّ على الفتح،

أما الذين كانوا على الوثنية، فهؤلاء يسيرون مع القوي، فلما صار الإسلام قوة عقلية وجودية: أذعن الوثنيون لهم، و صار الإسلام قوة سياسية عسكرية بفرقها العديدة كما هو الحال في الحاضر،
فهذا الروح القدس الذي يُنزل الكتب يبدء زمنًا جديدًا و لو كره الكارهون،

و وصلت الروح بلاد الشام، حيث الناطقون بالآرامية و العبرية ابنتَي عم العربية،
كان سهلًا عليهم أن يصلوا ذرواتهم، المؤمنون منهم، و قالوا هم أيضًا ألله أكبرَ و شهد الكتاب

ألصوفية (4)

و لكي أتجنب استقراء الأحداث استقراءً تسلسليًّا، أقول أن الشرق الأقصى الذي لم يكن ناطقًا بلغة ساميّة، كان عليه أن يتقبل الإسلام فكريًّا وتسليميًا،
و كان هذا لا بُد محمودًا لدى شعوب تعددت رموزها و أوثانها و زخارفها و شعائرها ...، كنظيراتها النطاقة باللغات الساميّة،
و هكذا أصبحت شعائر المسلمين من وضوء و صلاة و صوم و حج ...: ألدينَ الجديد لبعض من هذه الشعوب ...
لكن الروح يضيء كل أمر، حتى أقبيةَ التعذيب، عسى يحب المعذبون النور الذي في آيات الكتاب، و ينتصرون على جلاديهم ...

و كيف تتشعب الطرق في اتجاهات خفية ... أمر لا يحيط به الذهن و الفكر المبني على الملاحظة الطبيعية ...
فالقول أن بعض المدرسات الصوفية نشأت هناك كجسر بين أديان الشرق الأقصى و الإسلام، عبره مفكرو تلك الأديان و المسلمون باتجاهين: قول من قبيل تبسيط الأمور،

هذه الأطُر الفكرية: موجودة بالإمكان و منذ خُلق الإنسان،
تتخذ صوَرها في ظروفها و أمكنتها و لغاتها ... المناسِبة لتصويرها،
و ينجذب إليها الذين كارماهم أوصلتهم إليها

ألصوفية (5)

مهما كانت الطريق عظيمة: ألذي يسكن عليها يفقدها،
و القول أن هذه الطريق توحيدية، أما تلك فإشراكية أو غير ذلك من النعوت ...: دعوى للسكون،
لكن، هل يصح أن نقول بغير تحفظ أن كل الطرق توحيدية؟
كلا، طبعًا،

كيف إذًا تُعرف الطرق التوحيدية؟
يا ليت الإجابة ممكنة بالتفصيل أو ببساطة و اختصار، و كل إجابة مختصرة أو مفصلة: طريق غير توحيدية،

على هذه الأسس: ألصوفية و الأصولية تقفان متقابلتين على مسطبة واحدة،
تتباعدان إذا نسيَتا التوحيد، و تتقاربان إذا اقتربتا منه،
و هذا قول يصح على كل الأديان التي تجد لنفسها ضدًا،

ألضد و الضدية كلمة لعلها استُعملت لأول مرة في كتب الحكمة: للإشارة إلى هذا الأمر،
لا ضدَّ و لا ندَّ للحق، و طريق للتوحيد طريق وُسطى

ألصوفية (6)

منذ أن أُنزِلت الحكمة، ثم بدأ البحث عن الأسباب الطبيعية جراء نهضة أوروبا، صار للضدية وجهان جديدان:
ألوجه الذي يرى الأسباب الطبيعية،
و الوجه الذي يرى أن الكون يجري بالسحر،

وهذا الأخير يرى إلاهه أكبر ساحر، و السحر هو قدرة الإلاه على ما يُنسب له،
و يتبارى أهل الأديان الإبراهيمية اليهودية و المسيحية و الإسلام و العلوية و الدرزية و البهائية بما يلاحظون و ما يتوقعون من سحر إلاه كل واحد منها، و من معجزات طبيعية و عسكرية تعمل لصالحهم الخاص،

في هذا الصراع الجديد: ألغلبة للذي يفهم الأسباب الطبيعية، وهذا مُتقدم على المعتقِد بالسحر فكريًا و خلقيًا، من حيث أنه يرى على الأقل الوجه الطبيعي للأخلاق البشرية ...
في هذا الصراع الجديد: ألأديان الإبراهيمية جميعها، بفروعها الصوفية و الأصولية - و كلها اليوم انقسمت هذا الإنقسام و لو بصورة باهتة غيرِ واضحة التباين -: تنتمي للوجه المعتقد بالسحر،
لا أمل لها بالخوض في منافسات الأمم الصناعية، لا علميًّا و سياسيّا و لا فكريًّا،
بل تسكن كل احدة في برجها العاجي، عالةً للأمم الصناعية، تلك التي لا تتردد في أن تبقى متفوقة إقتصاديًّا و عسكريًّا

ألصوفية (7)

يبقى أن نسأل ما إذا كان كل الشعر الصوفي تعبيرًا عن التوحيد أو طريقًا إليه،
أما السؤال الأول، فكما قلنا مرات عديدة، و استنادًا إلى الكتب والحكمة، فإن التوحيد ليس أمرًا يُعبّر عنه بأية لغة أو صيغة لغوية، و ذلك لأنه ذاتي، و ليس تجربة شعورية أو فكرية أو عملية واقعية،
لا و لا هو انتساب إلى أصول عرقية قبلية،
و قلنا أيضًا أن التسمية "التوحيد" ليست حصرية لأية جماعة من الناس، فالدروز موحدون إذا استشهدوا بغير واسطة جسمانية أو روحانية، و المسلمون موحدون إذا أسلموا وجوههم لربهم و هو محسن، و المسيحيون موحدون إذا تعرفوا على المسيح سيد الأنبياء و الرسلِ جبريلُ مُبلغ كلمة ربه للخلق جميعًا، و اليهود موحدون إذا هادوا راجعين إلى ربهم، و ليست الكلمات المُلقات إلا شيئًا عرضيًّا،

و ليست قصائد وصف حبيب و كأس و شراب دليلًا على التوحيد، لا تساعد السامع أن يتجرد من تجاربه الحسية ليسمو إلى المطلق،
و الذي يتطهر من تجاربه اللذية و العذابية يحتفظ بسره،
خير ما يعمله أن يشير إلى العقبات التي تقف في طرق الناس، فلكل مكان و زمان عقباته، و الخرائط التي تعطيها الأديان والطوائف اليوم لتابعيها: ليست لأرضهم

ألصوفية (8)

لن ينتهيَ عذاب الشرق و العالم الإسلامي، لا بفضل الأصولية ولا الصوفية، و لن يأتيَ حل لمشكلات الحاضر من الماضي،
بل عندما يدرك مفكروه و قادته السياسيون و الدينيون أن حاله الحاضرة هي ما أوصلته إليها هاتان الأوصولية و الصوفية ...

و كما قلنا تكرارًا: لعلها كانت صالحة لعلاج أمراض الماضي، لكنها اليوم هي الداء،
و ما دامت العقلانية غائبة عن كل معتقدات الشرق الدينية و أيضًا تلك الي تسمي نفسها علمانية: لن يرضى إلاه و يخلص الناس من عذابهم إذا أكثروا من الرقص و الغناء حبًا له، و لا إذا أكثروا من إقامة شعائر الإغتسال و العبادة، و لا من شن الحملات العسكرية على الكفار حسب حكم أئمتهم و علمائهم و مواليهم و عقّالهم ...
ألإيمان اليومَ بالعقل، ليست وعود هذه الأديان شيئًا عقلانيًّا،
ألأولى بهم جميعًا أن يتعاونوا على إنهاء عداواتهم و إصلاح بلادهم و رفع الظلم بعضهم لبعض، لكي يستحقوا الجنة و الخلاص على الأرض قبل أن يحلموا بجنة لا تريدها العقول السليمة،
و إن الإلاه الذي يُدخل المجرمين و الفاسدين و الأغبياء جنة حسب وصفهم: إلاه من صنعهم لا يستحق العبادة


 

 


All rights reserved
Copyright The Circle of Beauty

  Site Map