يا ملح الأرض، إغتسل ببراءة الطفل و صدق حب أمه، و ذر
عنك كبرياء الأذكياء الحاذقين،
خُلقتَ بالمحبة و بها تتطهّر،
لا تخف من الأشياء و لا يدخلَنَّ الشك قلبك أن الرب
يرعى،
فإذا فسد ملح الأرض لا أمل لها بأن تُمَلّح
يا ملح
الأرض، ألبشر يختلفون بمنظورهم لكن بصيرتهم واحدة، فإذا علو على كبريائهم لاهمّ
ما ترى العيون،
و يا ملح الأرض ألنية الطيبة أقوى سلاح في العالم، متى ملكتها ذللت بها و بالصبر
أعظم الصعاب
يا ملح الأرض،
ألأموات يريدونك أن تبقى معهم، المقابر مخبؤهم، دعهم يمجّدون موتهم و يحتفلون بزمان
ليس لهم،
إستيقظ تعش في الحاضر، فلم ينته بعد
الزمان
يا ملح الأرض، لا
تخف من الأموات، ألحُفر العميقة التي يحفرون إنما يحفرونها لأنفسهم، أنت تَرى
فجراً و هم
يختبئون و يعيّرونك
بأنك فتحت عينيك
يا ملح
الأرض، ألذين يضعون الشروط و المواقيت على درب الرب إنما يضعونها ليبرروا فشلهم،
لأنهم أثقلتهم أعباؤهم و أهواؤهم و مخاوفهم،
كُبَّ كلَّ شروطهم و صلواتهم و مواقيتهم و يوغاتهم في البحر، ما هي إلا عثرات
وضعوها في طريقك من أنفسهم، درب الرب مفتوحة و لا تُغلق و الأبواب مفتوحة و لا
تُغلق، لا تطرقُها إلا بمحبته، فمحبته نور يمحو المخاوف و الأوهام
يا ملح
الأرض، ألفرق الكبير بينك و بين الكذابين أنك إذا قلت شيئاً فلأنك تعرفه، أما
الكذابون فيقولون ما يظنون أنه ينفعهم،
و إذا فعلت شيئاً فكأنّك لست فاعله، أما هم فيفعلون ما يظنون أنه ينفعهم،
فلا تعتب عليهم فهم لا يدرون ما يقولون و لا ما يفعلون
يا ملح الأرض، ليس في الوجود شر و ليس عليك أن تقاتله، و إن القتال الذي
تحدثت عنه الكتب و الحكمة هو قتال النفس في سبيلها للمعرفة، و هذا لا ينتهي ما
دامت السماء و الأرض،
أما العداوات بين البشر فهي نتيجة خساسة أخلاقهم التي هي نتيجة جهلهم، و قتالهم
بأجسادهم لا ينهيها،
و عندما يختلف جاهل و عالم يعامل العالمُ الجاهلَ بأخلاق العالم، و أما إذا عامله
بأخلاق الجاهل فهو جاهل مثله،
و العالِم يعلمُ أن في الوجود عدالةً، و هذه لا تُقاس برغباته، و الصبر كنز
العالِمين
يا ملح الأرض، ليس
السلوك الإنساني الراقي نظام سير، و ليس الحق شُرطياً،
هذه الأشياء تحكمها قوانين الطبيعة
التي غايتها تسهيل السير و تجنّب الإصطدامات،
أنت الرقيب على نفسك و أنت المُهذِّب
لها الذي لا ينام و لا يأخذ إجازةً، و أما ما يراه الناسُ منك فلا يهمُّك إلا
بمقدار ما تطلب منك عاداتهم و تقاليدهم و شرائعهم،
فلا تتوقع مديحهم و لا تُغالي في تجنّب
انتقادهم، و ليس أئمتهم أئمةً عليك،
إنسانيتك و طيب نيتك تضيء طرق الفاهمين
منهم، و أنت في داخلك حرّ من المعتقدات و التقاليد و الثواب و العقاب و المدح و الذمّ، و لا تتوخى إلا تطهير
نفسك منها، فالنور لا يصل العين التي تنظر إلى الظلال
يا ملح الأرض، لا
تُكثر من اللوم و التوبيخ لنفسك و لا ترهقها بذنوبها، فإذا أخطأتَ ففي خلوتك
اليومية إعترف بالخطأ و تأمل بالظروف و الخواطر و الأفكار التي أودت بك فيه، و
اطلب من الحق أن يرشدك أن لا تعيد الخطأ عينه مرة أخرى،
أما ما يرى الناس، فكل فعل تفعله تحت
الشمس فيه قسط من الخطأ في منظور بعضهم، و لكن ليس رضى الناس أيما كانوا ما تطلب،
فالنور الذي يضيء سماءك لا يباشر منهم و لا هم يعرفون أنه يصل إليك
يا ملح الأرض، إنك
ترى المتنافسين في الدين و السياسة و التجارة و أمورهم الشخصية: إذا فعلوا أو
قالوا شيئاً فإنهم يفعلونه أو يقولونه نكاية بمنافسيهم و دعاية لأنفسهم، ثم يعجبون
لماذا لا تصطلح أمورهم،
ألدينيون منهم يحسبون أنهم يصلحونها
بشعائرهم و شرائعهم، و الملحدون منهم بتخطيطهم و تكنولوجيتهم،
ثم يحاضرون عن المحبة و التسامح و
التعاون،
لست أدري يا ملح الأرض، كيف نُخرجهم من
هذة الحلقة الباطلة،
أنت خرجت منها بقوة بصدقك بتذكارك
بصفاء مرآتك، في خلوتك اليومية بلا أزياء و زخارف مطمئناً لأنك أنت الذي تفيض
المحبة عليك و سماحها، و تنظرها بأم عينك و تستشعرها في قلبك و يسعد بها عقلك،
و عندما تبدأ يومك الجديد تضيء بها
ظلمات الناس و أنت لا تشعر و لا تربد أجراً و لا شكراً،
هنيئاً للذين يقبلون الكرامة من السماء
منك، غير هكذا لا تصطلح أمور الناس
يا ملح
الأرض، أعظم انتصار تنتصره على أعدائك أن تجعلهم أصدقاءً لك، و أكبر هزيمة
تُهْزَمُها أن تأذيهم و تشمت بهم، و أكبر خسارة تخسرها أن تجعل أعداءً لك من أناس
عساهم أصدقاءك،
ألكون مرآة نفسك و لا أحد غيرك قد شهد هذه الحقيقة، أنظر في المرآة الطبيعية: ما
تراه فيها مُنعكس عليك فوراً و تلقائياً
يا ملح
الأرض، لا تيأس من رياضتك إذا تعبت و زلّت قدمك فسقطت عن مُرتفع، خذ راحة قصيرة و
سوف تتسلق مرة ثانية بسرعة، و كلما بلغت مرتفعا تراآى مرتفع أعلى، و إذا تكرر
السقوط لا تيأس و لا تعذب نفسك باللوم فوق عذابها على إرغامها على ما لا طاقة به
لها،
سيأتي يوم تصبح عضلاتك كعضلات العنكبوت تتسلق الجدران الملساء و لا تُسقِطها
الجاذبية الطبيعية
يا ملح الأرض، ما
أعذب الطرب الذي تُطرَبُه على المرتفعات، و قد نظرتَ من علٍ، فاتصلت ببعضها
الأشياء بالمحبة الوجودية، ألا تدفع عُمراً ثمناً لها؟ و تعلم ماذا عنى القرآن لما
قال "أضربوه ببعضها"، و ماذا عنت الغيتا لما قالت "لا فرق الآن بين
الحجارة و الذهب"، ألنفس التي وسع رأسُها وجودَها لا تشتهي الكثرة لأن لديها
الكل،
يا حسرة يا ملح الأرض على الذين سجنوا
أنفسهم في شريعة الطبيعة في سجون من جهل أنفسهم و حرّموا عليها السِّماح الوجودي و
حسبوا أنهم المهتدون
يا ملح الأرض، أنت
الذي تحررت من العبودية للإلاه الذي يخلق الناس ثم يعاقبهم على خلقه،
أنت الذي تحررت من خضوعك للظلام خوفاً،
لأنك تعرف أن لا ظلام في الوجود،
أنت الذي لا تخاف أن يلتهمك العدم، لأن
ومضاً من ضياء عقلك يبدد العدم بأن يهبه وجوداً،
أنت الذي تحررت من العبودية للتراب،
لأنك عرفت الروح،
أنت الذي عرفت الروح، لأنك لا تقتني
الأوهام،
أنت الذي عرفت الحق، لأنك لا تعرفه
بالمقارنة،
أنت الذي تعرف الغيب، لأنك تشهده في
الحاضر الظاهر
يا ملح الأرض، عسى هذه آخر مرة
أحدّثك فيها عن ذلك الشيء الذي يسميه الجهل شرّاً، فاسمع جيداً و تفكّر مليّاً و
خذ وقتاً كافياً و لا تحسب يوماً واحداً أنك عرفت كل شيء، فإن محاولة القبض على
هذا الشيء كمحاولة القبض بإصبعين على شيء صغير ينزلق بينهما ما أن تضغط عليه، لذلك
عليك أن ترفعه بتأنىٍ من غير ضغط بين ثلاثة أصابعٍ،
كلما ابتدأ دور زماني جديد أضاء أشياءً في الكون و ألقى ظلالاً، ذلك لأن النور
الكوني خطّي المسار،
هذه الظلال مجهولة المُحتوى للناظر إليها من الكون، لذلك هي مخيفة للنفس، و تُعيد
لها ذكرى أول مرة نظرتْ الوجهَ المظلم للقمر، فخافت منه فعكست عليه نورها فبدى لها
وجهاً قبيحاً فجمّلته بضيائها،
ألنور و الظلام حالان وجوديّان في الثنائية أما
الواحد فهذا الذي لا يوصف بالنور و الظلام، هو النور الذي لا يحتمل الظلام، و كلما
تقرّبت إزداد منظورك كُليّةً، لكن الإنسان في الجسم يعجز عن الإحاطة بالأفق البسيط
الكامل، لذلك فمحبة الواحد تشهدك عيناً يقيناً،
هذا واجب الوجود و أما المحض فلا يُدرك بالأسماء و
الوصف و الخواطر و الأفكار، و هو يُدرك الأبصار و لا تدركه الأبصار،
لا يوجد في الوجود كون بلا وعي، فالكون هو وعيه و
الوعي هو الكون،
لذللك فإن في الفجوات المظلمة إنسان، ليس لأنه شرّير
بل لأنها الضرورة،
هذا الإنسان يتشوّق لضيائك لتزيل عنه الخوف و عذاب
التخبط في الظلام، و عسى أن هذا يجلب الخوف و العذاب عليك، لكنك قبلت ذلك لأنك تحب
الوجود و إن الوجود يحب الوجود
يا ملح
الأرض، لا تستمع لهدّامي العزائم، ضرّابي الرفوش حفّاري القبور حسّادي العيون،
الذين يحسدونك على ما لديك من عَجَبٍ و يضحكون،
أنت الذي سوف تضحك عليهم، لكنك لن تضحك عليهم، فأخلاقك الحرير الكريمة لا يعلق
عليها غبار منازلهم و لا نَتن ريحها،
خير لك أن تغادر قبورهم زحفاً حتى تستعيد قوّتك و تقف حيّاً على قدمين، من أن تبقى
ملقوحاً مُغلّفاً مع المحنّطين، ألذين ينتظرون أن يُنفخَ في زمّورٍ ليقوموا من
قبورهم
و عسى هذه
آخر يا ملح الأرض أقول لك أن رسالة ربك واحدة، لا نفرّق بين رسله و كتبه، و لا فضل
لرسول على رسول و لا لكتاب على كتاب، أنزل من لوح محفوظ فوق المكان و الزمان، ليدل
على الحق في مكانه و زمانه، ليصحح أخطاء الذين سبقوا، و يدعو الناس للإيمان و
التوحيد، و لا تُكلّف نفسٌ إلا وسعها،
و الذين لا يفهمون الكتب التي سبقت كتبهم أو لحقتها لا يفهمون كتبهم، و الذين
يقرؤون خرافات الأولين و شرائعها في الكتب التي سبقت كتبهم أو لحقتها يقرؤونها في
كتبهم و يحسبون أنهم مهتدون،
فما دام رجال الدين و من يتبعونهم يصبون من أباريق الثُمالة شراباً لا فرق بين
الشرائب و الأباريق
يا ملح الأرض، كم
سيُدهشون الذين وعدوا أنفسهم مقاليد السماء و الأرض، ألذين يقولون أن إلاههم
خلقهم ليعتقدوا معتقداً، و يلبسوا لباساً، و
يأكلوا مأكلاً، و يسلكوا سلوكاً، يعيشون عيشاً و يموتون موتاً،
آه يا ملح الأرض لو يعرفون الذي عليه
يقينهم،
لا تحزن عليهم، لكل على الأرض عذاب و
متاع، فأما الذين عذابهم متاعهم فلا تحزن عليهم، هذا نصيبهم الذي يرتضون
يا ملح الأرض، أنت
الذي لا تعوزك مستحضرات التجميل، للجلد و الشعر و العين، لَجمالك جمال النفس هدأت
أساريرها في مرآتها، وردٌ على الخدّين أحمر الشفيتين، فرعٌ علا الحاجبان على
الكتفين في العينين،
تالله يا ملح الأرض، أكلّما فتّت قلوب
هؤلاء جمالٌ نسوك و نسوا أباك و نسوا بديعك، و غلوا في ظلمهم و تردّوا هِجاناً،
دعهم، يتنافسون على تسويق المساحيق و
الأدهان، يخبئون تعب جلودهم و رمد العيون، و أنت البريء، جميلاً فطرة ربك، ترى ما
يخبئون و هم لا يرونك و لا يرون
يا ملح
الأرض، رجال الدين قد غلّفوا الكتب و الحكمة بتفسيرهم لها و شرحهم، فحرّموها عليك
و على الناس و على أنفسهم،
"لا يسّمّعون للملأ الأعلى"، يتسمعون لبعضهم، فيتجادلون و يتهاترون، هذا
ما تمليه عليهم آلهتهم، ثم تجازيهم و تقاصصهم،
أما أنت فلا ترضى بعين اليقين بدلاً، و لا من البرق و الرعد مخبأً،
أنّى لهؤلاء أن يروا أو يسمعوا، و قد جعلوا من غبار الأرض مغسلاً و خَلَفاً و
ميثاقاً،
قل لهم، سوف تحظون بالغبار الذي طلبتم، كما حظي الذين سبقوكم، ثم لتكوننّ أكثر
الناس ندماً
يا ملح
الأرض، أنت تسمع رجال الدين يحاضرون عن التقوى و التديّن و هم لا يعرفون غير
قوانين الطبيعة، هم يفهمون على قدرهم و أنت تعرف بعقلك، هم يزخرفون و أنت مفطور
على جمال الحق،
هم يعجزون عن أن يفعلوا ما يقولون و أنت تفعل و لم تسمع أقوالهم،
هذه معجزة هذا الخلق العظيم: كيف يأتي الظلام من النور و العدم من الوجود و
المسافة من الواحد،
ثم كيف يُضاء الظلام و يحيى العدم و تُطوى المسافة،
لذلك أنت تحبهم مهما ظلموا أنفسهم، و تضيء لهم طرقهم و تغسل أحزانهم، حبّاً لهم و
عجباً ببدائع خلق ربك
يا ملح الأرض، لا
تُكثر اللوم لنفسك على ماضىٍ و لا تُثقلها بالذنب و الندم، يكفيك عزّاً أنك قد
خرجت منه به، ربك غافر الذنب قابل التوب، هكذا غفر ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر،
في زمان أنت قبلته،
هنيئاً لك على نصرك، سر و لا تنظر
خلفك، و الندم قصاص الظالمين أنفسهم
لا تحتفل بنصر يا ملح الأرض، و لا تُلبس نفسك ثوب المتربع على العرش و لا
تُتوّجها تاج المُلك، فإذا فعلتَ كانت لك نفسٌ بين النفسين، و هذه عُذ بربك منها،
أشد غروراً بنفسها من أختها،
و ما أكثر المتطوّعين لحملها على هودجٍ، الساجدين لها الراكعين،
فما دمت في جسد فأنت لابسه، إيّاك أن تهبط ثانيةً إليه، إبق في رأسك و جمال وجهك
الذي وضّأته بضيائك، أما ما يريد الناسُ أن يروا و ما يقولون فهذا آخر شيء يهمك
لا تطلب نهايةً يا
ملح الأرض بل إبحث عن البداية،
ألذين يبحثون عن نهايةٍ يحبّون السكون،
لذلك هم أموات يسعون لموت جديد،
ليس الوصول إلى البداية سكوناً، بل
يقيناً فطمأنينةً، و الطمأنينة لا تُلغيها الحركة، لا و لا تبتغي السكون
ألمسألة يا ملح
الأرض أنك إذا وصفت خُلقك و لقاآتك رمزياً لتُعلّم ملح الأرض، نسخ وصفك الأذكياء و
قالوا أنهم الذين جاؤوا به، ليغووا الناس، فيأتي إليهم الملايين مقدمين لهم الطاعة
و الولاء، و يُجلسونهم على العروش و يطلبون بركاتهم،
و هذا ما يريدون وهو جزاء جهادهم، لكن
ذكاءهم لا يخدعك إلا قليلاً، و عساهم قد كتبوا كتباً و ألقوا محاضرات، ملؤها
الموعظة الحسنة و القول الجميل، لكن أقوالهم تدل على موصلهم، و هم لا يشعرون،
لذلك فكل الكتب باطنية، حتى باطنية
الحكمة الشريفة باطنية، و العارفون يعرفون سبيلهم أينما ينظرون
يا ملح
الأرض، إحذر الذين يريدون إصلاح الدنيا بأن يسيّروها حسب معتقدهم، و هذا يتضمّن
دمار أعدائهم،
ألدنيا تصطلح إذا اصطلحت النفوس، و هذه لا تصطلح إلا إذا عرفت الحق الذي فوق كل
المعتقدات،
و بعد هذا التمخّض المؤلم، سوف يلد العالم عالماً يعطي كلّ ذي حق حقه، ليصلحوا
أنفسهم و معتقداتهم، في ظل قانون عالمي، يحفظ حقوق الشعوب و الأمم في تبنّي ما
تشاء من المعتقدات لتعيش في ظل ما تشاء من الأنظمة و التقاليد و الشرائع، و ليس
تعدد ألسِنة الشعوب و معتقداتها و مناهجها إلا آياتٍ لقوم يتفكرون
لذلك يا
ملح الأرض: لا تعطِ أزمات العالم السياسية أكثر ما تستحقّه من الوزن، فما هي إلا
ظاهرة واحدة من ظاهرات غرق هذا العالم في جهله،
و سوف ترى يا ملح الأرض، أن الأسماء التي يسمي بعضُ الناس بضعهم للحط من قدرهم و
ليبرروا أحقادهم و كبرياءهم: هي أسماؤهم: تعادل المُسمِّي و المُسمَّى،
هذه الصفحة السوداء في وجود الإنسانية دامت بضع آلاف من السنين، سوف تُطوى كما
طُويت سابقات لها، يوم خرجتَ من الظلمة إلى النور بضيائك، و يوم ركبت السفينة و
أبحرت على بحر الحد الخامس متوجهاً إلى جبل لا تراه العين لاح لك حتى استقرت عليه،
و تجلى ربك للجبل و كان الغافلون عن مشهده غارقين
يا ملح الأرض، لا
تخف من رجال الدين، لا هم مُنزلو الرسالات و لا هم كاتبو الكتب،
لا هم من يحاسب الناس و لا هم حرس
أبواب السماء،
لم يعطَوا سلطة ليشرحوا الكتب و
يفسروها و لا ذكاؤهم على قدر هذه المهمة،
تراهم يكتبون و يخطبون، و لا يقولون
للناس أن هذا فهمهم،
تراهم يحللون و يحرمون، و يحكمون و
يقطعون، و لا يقولون للناس أن هذا رأيهم،
ثم يقولون لك أن لا تتبع أحداً،
باستثنائهم!
في خلوتك اليومية: إعتصم بحبل ربك و
انظر، سقط ضجيجهم و اختلط بضج الطبيعة، بل ضج الطبيعة أعذب سمعاً
يا ملح
الأرض، إسعد وابتهج، و دع الحيرة و اليأس للذين صنعوا الحيرة و اليأس منذ البدأ،
إنه من كرم خلقك أنك قبلت أن تبتعد لتختبر ما يختبرون، كرماً منك و محبةً،
و أعظم جائزة تجزاها هي صحوك بعد غفلة، هكذا غُفر ما تقدم من ذنوبك و ما تأخر ساعة
نشأتك الأولى و نظرت إلى الذي ليس شيئاً و عرفت، و الذين نظروا في المجهول هم
الذين قال لك القرآن: يرونهم مِثلَيهم رأى العين (مثل مُصغّرة)، و ربكم وسعت رحمته
العالمَيْن
يا ملح
الأرض، لا تغرّنك المتغيّرات الظرفية، و لا تتعلق بها و لا تقل أن تعلقك بها إخلاص
مهما كان نوعه، و ارمها حالما تبلى، و إذا اقتنيت غيرها فلا تتعلق بها، سيأتي يوم
سوف تبلى مثل سابقتها،
و إذا لم تغييرها بإختيارك فسيسلبها الموت منك، لتُبعث في مكان و زمان آخرَين
لتقتني غيرها،
إخلاصك: لعقلك. هو الذي يملك المقدرة على التمييز، و هو الذي له القرار في ما
ينفعك في ظروفك من مقتنيات مادية و فكرية و عاطفية ... إذا اتخذته سيداً لك و علمت
نفسك أن تستمع له،
لذلك فالإيمان بعقلك و إخلاصك له: نصرك الكبير، الذي يحررك من الذل بأشكاله،
لترتقي إلى العبودية في الحقيقة
يا ملح
الأرض، ما أكثر الذين يقولون أنهم يحبون الله، ينظمون الشعر و يكتبون الصلوات، و
إذا حلّت عليهم النعم أو المصائب كانت لهم فرصةً ليُظهروا للناس تديّنهم: يرددون
إسم ربهم عالياً ليُسمِعوا الناسَ، و ربهم يعلم نواياهم،
و أنت تريد براءةً من مفاهيم الذهن و مخاوف النفس و رغباتها، ترى رحمة ربك و صمده
فوق صراخ هؤلاء من عذابهم و خوفهم على نعيمهم و غنائهم لحسن حظهم ...
فلا يغرنّك ضجيجهم الذين نصّبوا أنفسهم أهل علم و قداسة و لا تنزل منازلهم، دعها
للضائعين و النائمين و عساها تنفعهم، فإن ما لديك لا يستحق إلا الصمت
إن حكام هؤلاء يا
ملح الأرض مثل آلهتهم: يتلذذون بتعذيب الضعفاء و يشمتون بهم، يسلبون مقتنياتهم
نكاية بهم، يتجسسون عليهم ليعاقبوهم على هفواتم، لا يرأفون بهم حتى يروهم متذللين
لهم راجينهم، يغضبون عليهم إذا لم يقيموا الأنصاب و التماثيل و البيوت لهم ...
لذلك تراهم يغضبون عليهم يستبدلونهم
بحكام مثلهم، فكلٌ ذو حق يأخذ حقه،
و أنت تأسف عليهم يا ملح الأرض، و تذكر
إذ قيل لهم قول كريمٌ، و لولا رحمة سبقت من ربك لما ترك عليها من دابّة، فلا تأسف
عليهم
ما أكثر
المتنافسين على الشهادات يا ملح الأرض و ما أكثر المحتكرين لها و إذا لم تأتهم
بشروطهم لا يريدونك و لا يريدونها،
يلمسها بعض و بعض يقولونها لك و كثيرون لا يزالون ينتظرون،
و ترى ليست شهادة عمن يستعين ببعيدة عبرت بصرك فلا تصدق ما يصدقون،
ليطمئن الذين اقتتلت أسبابهم على الأرض نظرهم من مصرد عرض السماء و أولئك في
طبيعته هائمون، قل لهم فاشهدوا إن كنتم شاهدين
يا ملح
الأرض، لن يصدقك بعض حتى تعتقد معتقداتهم، و لن يصدقك بعض لأنك لست من قبائلهم،
لأن هؤلاء قد لقبوا أنفسهم ألقاباً و لم يفهموا معنىً، فأسقطوها على الأرض
ليتداولوها، سقط الإنسان على الصخرة، مرّات متكررات، أنت الغني عن مأخذهم، و هم
المُقفَرون
يا ملح الأرض، إنك
تجد نفسك واقعاً بين ظلامين، لكن خلاصك ليس هدية تهبط إليك من السماء مجاناً، و لا
هو بانحرافك إلى جانب هذين، بل هو اختبار نفسك لإيمانها بعقلها و خُلقها،
فإذا ارتفعت بخلقك و نظرت أمامك و لم
تلتفت لهما: فأنت الأمة الوسط التي كُتب لها أن تدير دفة السفينة بغير الطبول و
الزمامير: لأن الحق الآن معها،
ليس القدر محتوماً بل خاضعٌ لإختياراتك
و سعيك و صبرك على مجابهة الصعاب،
و ليس واحد من الظلامين أقل ظلاماً، و
أنت الذي تضيء لهما، و هما قد يحسبان أنه ضوؤهما، فأنت لا تريد أجراً منهما و لا
شكراً،
لكن المصباح لا يضيء إذا كانت زجاجته
مغطاةً بالغبار: ألغبار الذي علق عليها حين نزولك إلى أقبية العفن والقذارة، و من
كسلك و تنائيك عن تنظيفها و تلميعها و عن إضافة الزيت، حتى تعتّمت ناره و خمدت، و
كاد لا يضيء،
يا ملح الأرض، أزل العقبات بين الإخوة
في النور أينما كانوا: بذُلّ المحبة و كبر التواضع و قوة النية الطيبة و
البهجة الوجودية و نور العقل الجامع لها، و سوف
تتوضّح لك الطريق و تُضيءَ طريق الظالمين، لئلّا يُظلِموا طريقك مرة أخرى
يسألونك
يا ملح الأرض: من هم أهل النور؟
قل لهم هم الذين يفيقون من النوم، و ينزعون اللحف العفنة عن أجسامهم، و يخلعون ثوب
النوم، و يخرجون إلى ضوء النهار الجديد كل مرةٍ، و يستحمون بماء و يستدفئون بنور
الشمس، يفطرون على فاكهة شافية، أُنزلت على طبق لاينفذ طعامه، طعمها حكمة و ذكرى
لمن ألقى السمع و هو شهيد،
و أما الذين يستحبون الأحلام، فسيبقون في نومهم، و نوم النهار يا ملح الأرض
كوابيسه مخيفة، يرزحون تحت ثقله، يقولون يا ليتنا أفقنا، لكنهم لن يفيقوا مهما علا
صراخهم في الفراغ،
و ترى الشمس تزاورهم ذات اليمين و ذات الشمال، و هم في فجوة من ربّهم، إذا نظرت
وجوهَهم عيونُهم منقلبةٌ غرقاً في جماجمها، و أفواههم مفتوحة يشخرون شخير الوحوش،
تحسبهم أيقاظاً و هم أموات و لملئت منهم رعباً
يا ملح
الأرض، خُلق الوجود بالمحبة، و الريح التي تقتلع شجر السنديان تجري بالمحبة،
والماء الذي يأخذ الأرض من أطرافها يفيض بالمحبة، و النار التي تضيء الكواكب تتأجج
بالمحبة، و الوحوش التي تأكل بعضها تأكل بالمحبة، إلا الإنسان، يصنع الأشياء بفكره
و جسمه ثم يعبد ما صنع، فيُضاف له غرورٌ على غروره،
و كلما ازداد غروراً إزداد نفاقاً، لذلك يا ملح الأرض فآلام الناس لا تخففها
صلواتهم و لا أموالهم و لا عقاقيرهم و لا حروبهم و لا ذكاؤهم، إلا لوقت قصير لتعود
أكثرُ أيلاماً،
لذلك قيل أحبوا أعداءكم، فهذا نصرهم و نصركم
طوبى للاجئين في العقل، فقد هجروا
الخرافات و الأوهام،
طوبى لهم، لأنهم عرفوا أن الحقيقة هي الروح،
طوبى لهم، لأنهم لم تستعبدهم الآلهة التي من صنع الإنسان،
طوبى لهم، لأنهم أطاعوا ربهم إذ حققوا وجودهم،
طوبى لهم، لأنهم لا يسكتون و لا يصبرون على الجهل،
طوبى لهم، لأنهم لا تحجب رحمةَ ربهم عن أبصارهم وعودُ
الواعدين،
طوبى لهم، لأنهم كلما ازدادوا علماً إزدادوا تواضعاً،
طوبى لهم، لأنهم كلما قربهم ربهم مدوا أيديَهم للناس
ليقربوهم معهم،
طوبى لهم، فأينما يولون وجوههم فثم وجه ربهم ذي
الجلال و الإكرام